المعلم و التلميذ في الادب السومري
- Nizar Al-Musawi
- Nov 23, 2022
- 6 min read

تتميز بلاد ما بين النهرين في التاريخ القديم بغزارة وتنوع ارثها الحضاري، حفظته لنا الاف الالواح الطينية المكتشفة والتي يمتد تاريخها من أواخر الالف الرابع قبل الميلاد، عندما خط الحرف الأول في مدينة اوروك، ولغاية القرن الأول الميلادي حيث يعود تاريخ آخر الرقيمات الطينية المكتشفة والمكتوبة بالخط المسماري. إهتمت حضارات بلاد ما بين النهرين المتعاقبة بكثرة التدوين على الواح الطين وبفضل جهود المئات من الكتاب، أُكْتُشِفَتْ نصوص تراوحت في مضمونها ما بين عقود بيعٍ وشراء بسيطة والواحٍ لتعلُّم الكتابة في الكُتّابْ الى تعويذات للشفاء من الامراض و أَشعار لآلهة ومرثيات لملوك وملاحم واساطير خالدة.
يُمَثِّلُ النص الذي نتناوله هنا، والمكتوب باللغة السومرية نموذجا لِما يمكن ان نطلق عليه أَدَبَ النصيحة. تمّتْ دراسة النص وترجمته من قبل عالم الاشوريات فانستيبوت عام ١٩٩٦و هو متوفر للقارئ في الصفحة الالكترونية لنصوص الادب السومري الاصلية مع الترجمة الى الإنكليزية، وهذا المشروع تبنّتْهُ جامعة اوكسفورد في بريطانيا.
يقدم النص المكتوب باللغة السومرية حوارا واضحا بين معلمٍ (ناصح) وتلميذهِ الشاب (منصوح) ويتألف من خمسة وسبعين سطرا. يمكننا ان نُقَسّم النص الى ثلاثةِ مقاطع. المقطع الأول يمتد الى السطر ٢٩، وفيه يسرد المعلم تجربته عندما كان هو نفسه تلميذا. يمتاز هذا المقطع بأسلوب مُفْعَمْ بالزهو بالنفس ومديحها، حيث يشير المعلم في هذا الجزء الى فضلِ معلّمهِ عليه عندما كان يتتلمذ على يديه. إضافة الى ذلك أراد المعلم إيصال النصيحة بان طلب العلم والمعرفة له ضوابط وآداب ينبغي على التلميذ مراعاتها في سبيل ان يبلغ ما يطمح اليه. وبذلك إبتغى المعلمي هذا المقطع من تلميذه بان يقتدي بمسيرة معلمه ان أراد ان يكتب له النجاح مستقبلا. يمكننا ان نستنبط من هذا المقطع بان العلاقة بين التلميذ و استاذه غير متكافئة اذ يكمن مركز القوة في يد المعلم (الناصح) وليس بيد المتلقي (التلميذ المنصوح).
يبدأ الجزء الثاني من السطر ٢٩ الى ٥٤، حيث ينتقل الحوار الى التلميذ، مُقِرّاً بفضل معلمه عليه في السطر الأول ثم ما يلبث ان يتغير الى نقد كلام استاذه، منبها إياه بآنه قد دفع ثمنا غاليا من اجل الوصول الى ما هو عليه . وهنا برأيي تكمن أهمية النص، حيث يخرج الحوار من الحيّز المكاني (المدرسة) والزماني (ساعات تلقي العلم في المدرسة) ليصوِرَ لنا نمط الحياة اليومية للمدينة في تلك الحقبة الزمنية، حيث يرسم لنا التلميذ صورة مجتمع طبقي تحكمه علاقات اجتماعية واقتصادية معقدة. يمكننا الاستنتاج بان مهنة المعلم وقدرته على القراءة والكتابة كانت تمنحه قيمة اجتماعية كبيرة تعود بالنفع الاقتصادي والمردود المادي. نجد في هذا النص بأن المعلم يملك حقلا (او حقول) للزراعة والرعي، ويعمل تحت إمرته عدد من الخدم والعبيد. يصور التلميذ لنا تفاصيل حياته اليومية والتي يقضيها بالإضافة الى تلقي العلم، في خدمة سيده المعلم. فهو يرعى مصالح معلمه في الحقول الزراعية، يتفقد أحوال بيته ومتطلباته علاوة على تحضير وتقديم النذور للإله في ايام الأعياد والمناسبات. نستنتج من سياق النص بان كل ما قام به الطالب ليس من واجباته كطالب للعلم ولكن العرف والتقليد يجبره على خدمة معلمه في جميع متطلبات حياته للوصول الى هدفه في تحصيل العلم.
اما المقطع الأخير والذي يبدآ من السطر ٥٤ الى آخر النص فهو حوار متبادل بين المعلم و تلميذه ، و هنا تصبح العلاقة بين الاثنين متكافئة، حيث يقر المعلم بنبوغ تلميذه و نضج عقله، بعد أن إستمع إليه كما تبيّن في المقطع الثاني، و يبدو متأكداً بأن تلميذه سيكون كاتبا و معلما ذو شأن و منزلة في المستقبل. في المقابل، يقر التلميذ مجددا بفضل معلمه عليه فيما وصل اليه من مرتبة في العلم. ويختتم النص بطلب المعلم من التلميذ بان يقدم الشكر والعرفان للإلهة نسابا، الهة الكتابة والمعرفة، فبفضلها وبركاتها تمكن التلميذ الى الوصول الى ما كان يطمح اليه في مسيرته لتحصيل العلم.
للأسف لم اعثر على أي دراسة تقوم بشرح النص، و إن كان قد عُثِرَ على الرقيم الطيني خلال البحث التنقيبي أم تمّ شراؤه من سوق الانتيكات و تجار الاثار. كذلك لا نعرف تاريخ كتابة النص ولكن على الاغلب انه يعود الى حقبة العهد البابلي القديم (بين ٢٠٠٠ الى ١٧٥٠ قيل الميلاد) وذلك من خلال الإشارة الى الالهة نسابا والتي كانت الهة الكتابة والمعرفة حتى نهاية نلك الفترة. بعد ذلك بدأ شأن الاله البابلي نابو، ابن الاله مردوخ، بالصعود حتى تسنّمَ صفة إله الكتابة، والمعرفة حتى أواخر العهد البابلي الجديد (ما يقارب القرن الخامس قبل الميلاد).
النص الكامل (مترجم من الإنكليزية من قبلي)
١ – ٢ (المعلم يتكلم:) "تعال الى هنا ايها التلميذ، دعني اخبرك بما نصحني به معلمي."
٣ – ٨ "كنت شابا يافعا، مثلك، كان عندي معلم. كلفني معلمي بمهمة، تتطلب جهد رجل. كعود القصب النامي، سارعت لادا مهمتي وبدأت العمل. لم أحد عن تعليمات مرشدي، ولم اود المهمة على طريقتي. أبدى معلمي سروره بما بذلت من جهد لادا مهمتي. بدا معلمي مبتهجا بتوظيفي وكان يكن لي المديح."
٩ – ١٥ "أنجزت ما اوكل الي...كل شيء كان في مكانه الصحيح. لا ينحرف عن تعليماته الا الاحمق، كان يوجه يدي وانا اكتب على لوح الطين كي يبقيني على المسار الصحيح. علمني ان أكون بليغا بالكلمات، اعطاني النصح. علمني ان أركز على القواعد التي ترشد الرجل في مهمته: ان الحماس ضروري لادا اية مهمة، وتضييع الوقت محرم، ومن يهدر الوقت في ادا واجبه، فانه يهمل مهمته."
١٦ -٢٠ - "لم يكن معلمي متبجحا بما يمتلك من معرفة، وكانت كلماته متواضعة. لو كان متباهيا بعلمه، لعبست الناس بوجهه. لا تضع وقتك، ولا تخلد ليلا الى الراحة...اتمم عملك، ولا ترفض الصحبة الحميمة لمعلمك او لمساعده، فما ان تتعرف على تلك العقول العظيمة، سيكون لكلامك قيمة."
٢١ – ٢٦ "شيء آخر: من الان فصاعدا لن تعود الي رويتك الضيقة، والتي من شانها ان تحط من احترام الناس لك.
٢٧ – ٢٨:"ها قد تلوت عليك ما نصحني به معلمي، عليك الانتباه ولا تهمل هذه النصائح ... عليك ان تحفظها في قلبك، فهذا يعود عليك بالنفع."
٢٩ – ٣٥: "أجاب التلميذ معلمه بتواضع: ما تلوت على له فعل السحر، سأعمل به،
"لا تتصور باني جاهل.. سأجيبك مرة واحدة والى الابد.. قد فتحت انت عيني كما تفتح عينا الجرو الصغير وقد جعلت مني انسانا. لكن لم تلقي علي بنصائحك، وكأني متهرب منك؟ من يسمع كلماتك هذه سيشعر بالإهانة."
٣٦ – ٤٠:"كل ما علمتني إياه من فنون الكتابة قد رددت جميله اليك. أَنَطْتَ بي مسؤولية العناية بعائلتك وقد قمت بخدمتك دون ان اتملص من المسؤولية. كلفت عبيدك، من الرجال والنساء، من هم تحت امرتك بواجباتهم. ابقيتهم قانعين بما يحصلون عليه من حصص التموين، وحصص الزيوت، والملبس، وأمرتهم ان يقوموا بواجبهم بشكل منتظم، حتى اوفر عليك مهمة مراقبة خدمك وهم في منزل سيدهم. أقوم بهذا من الصباح الباكر، اقودهم الي أعمالهم كما يقاد الغنم."
٤٢ – ٤٩:" عندما كنت تأمر بتحضير النذور، أقوم انا بذلك في الأيام المناسبة. احضر الخراف والمأدبات بشكل جذاب، كي يشعر إلهك بالابتهاج. وحينما يصل القارب الذي يحمل إلهك، تستقبله الناس باحترام. عندما كنت تامرني بالذهاب الى الحقول، كنت أَْمُرُ الرجال بالعمل. لم يكن بالعمل اليسير، لم أنم الليل او أثناء قيض النهار، كل ذلك لضمان ان يبذل المزارعون اقصى جهدهم في تلك الحقول. زاد ناتج حقولك بفضل جهدي، كل ذلك حتى يعجب بك الناس. ما كنت تامر به ان يحمل على ظهور الثيران، قد اتممت ذلك العمل علي أكمل وجه."
٥٠ – ٥٣:" كنت دوما تراقب تصرفاتي منذ طفولتي وبشكل مستمر دون ان تتوقف ولو لوهلة! كُنْتُ دائما أقوم بخدمتك دون ان اتباهى – وذلك أحد عيوبك. لكن من يقلل من شانه ويتواضع امامك لا ينال منك سوي تجاهلك له، أود منك ان تعرف باني قد اخبرتك بذلك وبكل وضوح."
٥٤ – ٥٩:"(آجاب المعلم): "ارفع راسك الان، يا من كنت يوما ما صبيا، يمكنك الان ان تسير بيديك الى أي رجل، فتصرف بما يليق. (التلميذ يتكلم): " بفضلك يا من صليت من أجلي وباركتني، انت من غرس المعرفة في جسدي، كما لو كنت اتناول الحليب والزبدة، لم ينقطع عطاؤك، حققت النجاح دون ان يصيبني شر."
٦٠ـ ٦١:" (يجيب المعلم): "سيقدرك المعلمون تقديرا عاليا. يجب عليهم .... في منازلهم، في مناصب بارزة. سيحتفى باسمك لكونه مشرفا. سيجتهد الرعاة في عملهم عند سماع اغانيك الجميلة.، انا أيضا، عند سماع اغنياتك، سأجّدُ واعمل... سيبارك لك المعلم، بقلب مبتهج، انت يا من حفظت كلماتي في شبابك، قد افرحت قلبي."
٦٢ – ٧٢:" وضعت نسابا شرف مهنة المعلم بين يديك. {بمشيئتها ستغير لك القدر وستباركك بسخاء}. لقد خلقتك نسابا. ندعو ... عاليا. فلتبارك لك بقلب ملؤه السرور، وستحررك من اليأس...عن كل ما في المدرسة، مكان نيل المعرفة. ان عظمة نسابا...هدوء. عند سماع أغنياتك، سيبذل رعاة البقر اقصى جهدهم بسعادة بالغة. و على اغانيك الجميلة، سأعمل بجد و س...عليهم ان يقروا بحكمتك. على الأولاد الصغار ان يفرحوا بالكلمات المهذبة وكآنها جعة حلوة المذاق: المتعلمون يجلبون النور للاماكن المظلمة، للطرق المغلقة والشوارع."
٧٣ – ٧٤: "عليك ان تقدم الشكر لنسابا، التي احلت النظام في...ورسمت للمحلات حدودها، السيدة التي ليس هناك من يضاهي قدرتها الإلهية."
المصادر:
النص الكامل متوفر باللغة السومرية و ترجمته الى الانگليزية في موقع : المدونّة المفصلة للأدب السومري Extended Text Corpus of Sumerian Literature و هو مشروع قامت به جامعة اوكسفورد بنشر معظم النصوص المكتوبة باللغة السومرية و ترجمتها ألى الإنكليزية
コメント