top of page

الحكاية الشعبية في العراق القديم

  • Writer: Nizar Al-Musawi
    Nizar Al-Musawi
  • Jul 1, 2020
  • 11 min read

Updated: Jul 4, 2020


يتألف النتاج الادبي من اشكال عدة ويعتبر الفولكلور او ما يعرف بالتراث الشعبي نمطا رئيسيا من ذلك النتاج حيث يرسم لنا صورة تعكس واقع عادات وتقاليد المجتمع الذي نشأت فيه وتشترك به فئة معينة من البشر. ويشتمل الفولكلور بدوره على ألوان متعددة كالقصة الشعبية والامثال والفكاهة او ما نسميه النكتة. و قد حافظت الحكاية الشعبية على ديمومتها في الذاكرة الجمعية الشعبية عبر التاريخ من خلال السرد الشفوي الذي تناقلته الأجيال، ونستطيع القول بأن تدوين الحكاية الشعبية قد بدأ متأخرا نسبيا مقارنة بصنوف الادب الأخرى كالشعر والقصة بل وحتى الرواية. ومع بدايات القرن التاسع عشر بدأت الأمم تعير تراثها الشعبي أهمية كبرى ونشأت نتيجة لذلك المحاولات الاولى لتدوين الحكاية الشعبية. يعتقد هرسكوفتس "ان الحكاية الشعبية في جوهرها ليست مجرد تعبير ادبي يعكس طبيعة المجتمع، انما تمثل في الواقع تحليلا أثنوجرافيا ما ان يتم تنظيمه من قبل الباحث الا وأعطاه صورة دقيقة عن طبيعة الحياة اليومية للناس في ذلك المجتمع" (باسكوم، ١٩٥٤). ويمكننا الاستنتاج بان الحكاية الشعبية كالمرآة تعكس لنا طبيعة المجتمع الذي نشأت فيه. ولأجل الوصول الى مضمون القصة الشعبية، من الضروري ان يكون بمقدور القارئ ان يلم، قدر المستطاع، بالعادات والتقاليد لذلك المجتمع الذي تدور حوله الحكاية. يوضح مالينوفسكي ذلك بقوله "بان التراث الشعبي لمجموعة من الناس لا يمكن فهمه الا من خلال معرفة واسعة بثقافة ذلك المجتمع" (مالينوفسكي، ١٩٢٦).

يمتلك العراق، كغيره من البلدان، ارثا غنيا من الحكايات الشعبية والتي يعود تاريخ نشوئها الىى أكثر من ألف عام. مثال ذلك حكايات ألف ليلة وليلة، تلك التحفة الأدبية الشائعة، والتي يعتقد بان قصصها رأت النور في شوارع ومحلات وقصور بغداد في العهد العباسي (٧٥٠-١٢٥٨ميلادي). مع ذلك، لم يكن متوقعا ان نكتشف بان القصة الشعبية قد عُرِفَتْ في العراق القديم وتناقلتها الأجيال عبر السرد الشفاهي ومن ثم تدوينها منذ الالف الثاني قبل الميلاد بأقل تقدير. ففي ذلك السهل الرسوبي في وسط وجنوب العراق منذ الاف السنين انتشرت الاساطير والتراتيل والتعويذات بصورة كبيرة. لقد تم اكتشاف المئات، ان لم يكن الالاف، من الرقيمات الطينية التي ضمت قصصا لإلهة وملوك، كهنة ومعابد وكائنات اسطورية. وكانت المفاجأة عام ١٩٥٢ عندما عثر فريق من المنقبين على اثار مكتبة صغيرة من الالواح الطينية في مدينة سلطان تبي التركية (المدينة الاشورية القديمة هوزيرينا او خوزيرينا). لوح طيني واحد كتب بالاكدية اثار دهشة المنقبين، وقدر بان تاريخه يعود الى ١٥٠٠ (١) قبل الميلاد. سبب الاستغراب ان النص المكتوب يمثل قصة يمكن ان تدرج ضمن صنف التراث الشعبي، حيث لم يعثر على ما يشابهه من قبل في تاريخ العراق القديم. ذلك النص كان لحكاية بعنوان "رجل نيبور الفقير (٢)، وقد دون تلك القصة، كاتب في مدينة هوزيرينا يدعى نابو-رختو-اوشور، وتحكي لنا قصة رجل اسمه جميل-نينورتا (٣) من مدينة نيبور حيث يعيش حياة بائسة وفي فقر مدقع. وفي يوم من الأيام يقرر جميل-نينورتا بيع ردائه ليشتري عنزا من سوق المدينة ليأخذه الي بيت الوالي (٤) ويقدمها كهدية له، متمنيا ان يمن الوالي عليه ويقدم له عشاءا فخما يشبع به جوع بطنه وجعة (بيرة) فاخرة في مقابل الهدية التي قدمها له. ولكن على العكس من ذلك، وبعد ان اخذ الوالي العنز، يأمر خدمه بان يقدموا لجميل- نينورتا عظاما وفتات طعام بائت مع اردأ أنواع الشراب. يسخر الوالي وحاشيته من جميل-نينورتا ويأمر بطرده خارج القصر حيث يخرج غاضبا بعد ان اهانه الوالي فيتوجه الي حارس بوابة القصر، توكولتي-انليل (توكلت على انليل)، ليصرخ بوجهه محذرا بان الوالي سيدفع ثمنا غاليا لفعلته تلك وانه (جميل-نينورتا) سينتقم منه ثلاث مرات. تمت ترجمة قصة رجل نيبور الفقير الي الإنكليزية عام ١٩٥٦ من قبل الباحث كيرني والذي اضاف بان هذه القصة تنتمي لنمط الحكاية الشعبية المرقم ١٥٣٨ حسب "فهرس اوثر" الشائع استخدامه في تصنيف الحكايات الشعبية (كيرني، ١٩٧٢). تحتوي "رجل نيبور الفقير" في البدء على مخطط عملية نصب من قبل شخص مخادع على رجل بسيط. تلي ذلك سلسلة من المقالب، عادة تكون ثلاثة، يقوم بها البطل (جميل-نينورتا في هذه القصة) انتقاما من المخادع (والي مدينة نيبور) لينتهي كل مقلب بالضرب المبرح للوالي. دونت قصة رجل نيبور الفقير في مئة وستين سطرا ويمكن تقسيمها الي خمس حلقات متتالية (كوبر، ١٩٧٥). المقدمة، يليها اللقاء الأول لجميل-نينورتا مع الوالي. بعد ذلك تتوالى ثلاثة لقاءات يقوم فيها جميل-نينورتا بضرب الوالي ضربا مبرحا انتقاما لما تعرض له من إهانة في لقائهم الأول.

تتضمن المقدمة الاسطر ١ – ٢١، وتلقي بنظرة عامة على بطل القصة جميل-نينورتا واحواله البائسة:

١ كان هناك-في زمن مضى، في مدينة نيبور- رجل فقير ومحتاج

٢ كان يدعى جميل-نينورتا، رجل بائس،

٣ كان يسكن في مدينته نيبور، ويعيش في فقر مدقع.

٤ لم تكن لديه فضة كما يليق بقومه،

٥ لم يكن لديه ذهب كما يليق بالبشر،

٦ مخزنه يحتاج الي حبوب نقية،

٧ بطنه تحترق، تتشوق الي الخبز،

٨ وجهه بائس، يتشوق الى لحم، وشراب جعة (بيرة) لذيذ،

٩ يشتهي كل يوم وجبة طعام، ولكنه يخلد الى النوم جائعا

١٠ يرتدي ثوبا واحد لا يمتلك غيره

١١ (ذات يوم) تشاور مع قلبه البائس، (وقرر:)

١٢ سأخلع ثوبي الذي لا امتلك غيره، (وابيعه)

١٣ سأشتري عنزة في سوق مدينتي نيبور

١٤ (وفعلا)خلع ثوبه الذي لا يمتلك غيره،

١٥ واشتري عنزة عمرها ثلاث سنوات من سوق مدينته نيبور.

١٦ تشاور مع قلبه البائس، (وحدثته نفسه:)

١٧ ماذا لو ذبحت العنزة في فناء داري؟

١٨ وأصدقائي في محيط جواري سيسمعون بذلك وينزعجون،

١٩ اهلي واقاربي سيغضبون،

٢٠ لذا دعني امسك بالعنزة، واخذها الي بيت والي المدينة،

٢١ سأصنع بذلك عملا جيدا ولطيفا لمعدته، مزاجه.

تسلط المقدمة أعلاه الضوء على فقر جميل-نينورتا المدقع وحاله البائس وكيف لعب ذلك الفقر دورا محوريا عبر تفاصيل القصة. ففي البدء، جعل العوز والبؤس من جميل-نينورتا شخصا عرضة للاستغلال من قبل من يمتلك الجاه والسلطة (والي نيبور). مع ذلك، نرى ان حالة الفقر والحرمان تحولت لتكون الدافع الرئيسي الذي سيطر عليه ليحكم انتقامه من الوالي. ان حالة فقر جميل-نينورتا كما وصفتها الحكاية لم تكن مجرد جوع لطعام وعطش لشراب لذيذ، بل شملت أيضا عدم القدرة على سد احتياجاته "الفيزيولوجية" والاجتماعية في نفس الوقت (امتلاك ذهب وفضة على سبيل المثال). تبين لنا المقدمة بانه لو قدر لجميل نينورتا ان يملك ما يلزمه من تلك الاحتياجات، فان ذلك سينعكس على وضعه الاجتماعي الذي سيمنحه الاحترام الذي يبتغيه في محيطه الاجتماعي في مدينة نيبور. يعرف لنا كنكايد الفقر بانه "ليس مجرد الحرمان من لوازم الحياة الضرورية من اكل ومشرب وملبس ومسكن وانما فقدان القدرة على التحكم في الظروف التي تطرأ علي حياة الفرد في مواجهة قوى أكثر قدرة وقوة في المجتمع"(كنكايد، ١٩٧٣). صورت لنا "رجل نيبور الفقير" جميل-نينورتا كفرد ساذج من السهل الضحك عليه بسبب فقره المدقع، ولكنه مع ذلك، كان شخصية لا تخلو من التعقيد. ففي الاسطر ١٨ و١٩ يعرفنا النص بان لجميل-نينورتا عائلة واقارب وبانه يعيش في مسكن وسط جيران واصدقاء، مع ذلك يبدو لنا من خلال النص بانه لا يكترث بعائلته وجوعهم حيث انه يفضل تناول عشاءا دسما في بيت الحاكم دون اهله وبعيدا عن جيرانه. يرسم لنا السطران ١٨ و١٩ صورة مهمة جدا عن واقع المجتمع في مدينة عراقية كبيرة كنيبور قبل ثلاث او اربعة الاف عام. تلك الصورة ما تزال شاخصة في مجتمعنا العراقي حاضرا وفي معظم بلدان الشرق وبالأخص في البلدان العربية حيث حقوق الجيرة وان من العيب ان يقيم فرد وليمة في بيته وبالأخص في المناسبات دون ان يدعو جيرانه اليها.

تنتقل القصة لتصور لنا في الاسطر ٢٢-٧١ اللقاء الأول بين جميل-نينورتا ووالي نيبور، والذي يبدا بأخذ العنز الى قصر الوالي حيث يقدم نفسه عند الباب الرئيسي للبواب توكولتي-انليل، طالبا منه اللقاء بالوالي. وعندئذ يسمح لجميل-نينورتا بالدخول و لقاء الوالي بعد ان احيط علما من قبل البواب بان مواطنا من مدينة نيبور جلب هدية له. تتوالى الاحداث لتصف لنا جميل-نينورتا يعامل بعدم احترام، و من ثم طرده من قصر الوالي:

٥٨ اعط مواطن نيبور عظما وغضروفا

٥٩ اعطه جعة رديئة للشرب، من قارورتك،

٦٠ اطرده، ارمه خارج البوابة.

وبعد الإهانة التي تعرض لها جميل-نينورتا، خرج غاضبا وصاح في الحارس توكولتي-انليل، بانه سينتقم من الوالي وسيجعله يدفع ثمن اهانته ثلاث مرات:

٦٥ قال للحارس حامي البوابة كلمات:

٦٦ بهجة الالهة لسيدك! قل له:

٦٧ الحقت بي الإهانة مرة واحدة،

٦٨ ولكني سأجعلك تدفع ثمنها ثلاث مرات!

٦٩ وعندما سمع الوالي ذلك، ظل يضحك طوال النهار.

وليتمكن جميل-نينورتا من الانتقام، يقرر بالتوجه الي قصر الملك ليطلب منه عربة ملكية يستأجرها إضافة الي ملابس جديدة تليق برجل من طبقة النبلاء. يعد جميل-نينورتا الملك بانه سيدفع له مانا (٥) واحدا من الذهب الخالص مقابل استئجاره للعربة الملكية والملابس. يمسك جميل-نينورتا بعد ذلك بطيرين اثنين ويضعهما في صندوق يختمه بختم، و يتوجه الي بيت الوالي:

٨٨ راه الوالي، خرج لاستقباله، وقال:

٨٩ من انت يا سيدي؟ لِمَ جئت مسافرا في وقت متأخر من النهار؟

٩٠ (أجاب) الملك، سيدك ارسلني ل٠٠٠٠٠٠٠٠

٩١ لقد جلبت الذهب لمعبد ايكور، معبد الاله انليل.

٩٢ امر الوالي بذبح شاة طيبة لإعداد وجبة سخية له،

٩٣ ولكنه في قرارة نفسه تمتم: يا إلهي! انا متعب

٩٤ اما جميل-نينورتا فقد ظل طوال الليل مع الوالي يقظا.

٩٥ من شدة التعب، غلب النوم الحاكم،

٩٦ نهض جميل-نينورتا في أعماق الليل بهدوء

٩٧ فتح غطاء الصندوق، طار الطائر الى السماء، (وصرخ:)

٩٨ قم يا أيها الوالي! لقد سُرِقَ الذهب، لقد فُتِحَ الصندوق!!

٩٩ غطاء الصندوق مفتوح! لقد سرق الذهب!

١٠٠ مزق جميل-نينورتا ثيابه بألم مبرح

١٠١ هاجم الوالي بعنف، جعله يتوسل الرحمة،

١٠٢ ثم أشبعه ضربا من الراس حتى أصابع القدمين،

وعندها يقوم الوالي بالتوسل الى جميل-نينورتا بان يصفح عنه وما ان يسود الهدوء، يقدم الوالي مانين من الذهب الخالص الى جميل-نينورتا كتعويض وكذلك يمنحه ثيابا جديدا بدل التي قام بتمزيقها. يغادر جميل-نينورتا وعند خروجه الي البوابة يلتفت الى الحارس توكولتي-انليل ويقول له:

١١١ بهجة الالهة لسيدك! قل له:

١١٢ الحقت بي الإهانة مرة واحدة،

١١٣ وها قد اهنتك مرة أيضا، ولكن بقيت مرتان بعد.

صورت لنا المقاطع أعلاه طبيعة فساد الطبقة الحاكمة المتمثلة في هذه القصة بشخصية الوالي، والذي تعارضت مصالحه الشخصية مع مصالح العامة، وهذه الصورة لفساد الحاكم نجدها تتكرر مرارا في القصص الشعبية اللاحقة وبالأخص تلك التي ظهرت في العهد العباسي وما تلاه من حقب زمنية تميزت بالانحلال السياسي الذي عادة ما يصاحب تدخلات خارجية وفقدان سيطرة الدولة المركزية وضياع هيبتها وعدم قدرتها على حفظ النظام وتوفير حياة كريمة للرعية. ومن الملفت للنظر ان الملك، على عكس والي نيبور، يظهر في شخصية محايدة تسعى لمساعدة الرعية في هذه الحكاية. يتكرر كذلك هذا الدور في الكثير من الحكايات الشعبية بالأخص تلك التي نشأت في بلدان الشرق الأدنى وقد يكون السبب، كما يعتقد باسكوم، لأجل "الحفاظ على الانسجام الاجتماعي وذلك من خلال تقبل بعض السلوكيات والعادات والأعراف في المجتمع"(باسكوم، ١٩٥٤) اذ ان ضياع هيبة السلطة قد يؤدي الي تردي الأوضاع العامة للبلاد. مع ذلك ان دققنا في تفاصيل النص، نجد ان الملك أيضا كان جزءا من منظومة الفساد الإداري في مجتمع نيبور آنذاك. لم يظهر الملك مكترثا بالسبب وراء طلب رجل فقير بائس، كجميل-نينورتا، لاستئجار عربة ملكية وثيابا تليق برجل ثري. انما انصب تركيز الملك علي جانب الربح المادي الذي سيعود عليه ان وافق على الطلب، حيث وافق ان يؤجر العربة والملابس بمان واحد من الذهب.

في لقائهم الثالث (السطر ١١٥ – ١٣٩)، يغير جميل-نينورتا ملامحه ليظهر بمظهر طبيب قدم من مدينة ايسين من اجل معالجة جروح الوالي الناتجة من الضرب المبرح الذي تلقاه على يدي جميل-نينورتا. وعندما يسمح له بالدخول وبعد تقديم نفسه الي الوالي، يطلب جميل-نينورتا من الوالي وحاشيته وحراسه بان ينفرد مع الوالي في جناحه الخاص وفي غرفة معتمة، حيث ان العقاقير والمراهم التي جلبها معه لا تعط مفعولها ان استعملت في النور. وما ان ينفرد جميل-نينورتا بالوالي في غرفته الخاصة، حتى يشرع بضربه ضربا مبرحا للمرة الثانية.

١٢٥ كشف الوالي له عن كدماته التي حدثت عندما أشبع جسده ضربا

١٢٦ قال الوالي لخدمه: هذا الطبيب ماهر!

١٢٧ (قال جميل نينورتا:) سيدي ان ادواتي توثر في الظلمة،

١٢٨ في مكان خاص، بعيدا عن الطريق.

١٢٩ قاده الوالي الي غرفة منعزلة،

١٣٠ حيث لا صديق او رفيق يمكن ان ينجده.

١٣١ ألقى جميل نينورتا بالاناء على النار،

١٣٢ دق خمسة اوتاد في الأرض القاسية،

١٣٣ ربط راس الوالي ويديه وقدميه بها

١٣٤ ثم أشبعه ضربا من الراس حتى أصابع القدمين،

١٣٥ حتى جعله يتوجع ويئن.

ان لقاءات جميل-نينورتا الثلاثة مع الوالي تبين طبيعة التغيير الذي طرا على تلك الشخصيتين مع توالي الاحداث، حيث نري جميل-نينورتا الذي يدفعه فقره الي فكرة ساذجة في التوجه الي بيت الوالي طمعا في طعام لسد جوع بطنه. هذا التفكير، تم استغلاله بمكر واذلال من قبل الوالي، لكننا نري ان الصورة قد انعكست بعد عزم جميل-نينورتا الانتقام من الوالي، حيث نجد ان خططه تزداد تعقيدا خلال حلقات الانتقام الثلاثة بينما يظهر الوالي بكل ما يملك من جاه وحاشية وسلطة عاجزا عن الوقوف امام مكر جميل-نينورتا. ما ان نصل الي اللقاء الرابع والأخير بين الاثنين، تتعقد صياغة حبكة هذا اللقاء، حيث ان الوالي بات ملما بذكاء وفطنة جميل-نينورتا وعزمه على الانتقام منه للمرة الثالثة. في المقابل، نجد جميل-نينورتا لوهلة يبحث عن خطة يصعب على الوالي وحارس بوابته وحاشية القصر كشفها، وقد علم بان الوالي اخذ جميع الاحتياطات لمنعه من الوصول. ونتيجة لذلك، نرى بان كاتب الحكاية او راويها ينتقل بساحة الحدث الي خارج قصر الوالي. إضافة الى ذلك، نجد ظهور شخصية ثانوية جديدة تلعب محورا رئيسيا في صياغة المشهد الأخير. يقرر جميل-نينورتا ان يستخدم رجل عابر في تنفيذ انتقامه مقابل إعطائه عنزة عن جهده. يأمر جميل-نينورتا ذلك الشخص بان يصرخ في سوق مدينة نيبور بانه هو من قد اتي بالعنز في بادئ الامر الي قصر الوالي. عندئذ يهب حرس القصر وحاشية الوالي متجهين لإلقاء القبض على ذلك الشخص، ويخرج الوالي من القصر متجها ليقتص من ذلك الرجل ظنا منه انه هو جميل-نينورتا. وبينما كان الجميع مشغولين بملاحقة الرجل في السوق، رابط جميل-نينورتا تحت الجسر يترقب خروج الوالي وما ان راه يخرج من القصر من دون حمايته حتى هب عليه وأشبعه ضربا مبرحا للمرة الثالثة وافيا بعهده بان ينتقم منه ثلاث مرات.

١٤١كان جميل-نينورتا قلقا ومتلهفا، يرفع اذنيه ككلب،

١٤٢ ينظر الي الناس حوله بحذر، يتفحص بدقة كل الناس.

١٤٣ وجد رجلا يأمل في ان يعوض خسائره

١٤٤ أعطاه عنزة هدية، (وقال له:)

١٤٥ اذهب الي بوابة والي نيبور، وابدا بالصياح

١٤٦ حتى يجتمع الناس كل الناس بأعداد ضخمة على صياحك،

١٤٧ (وناد:) انا الطارق على بوابة الوالي، انا الرجل ذو العنزة!

وتنتهي القصة بعودة الوالي مهانا يعرج ماشيا الي القصر يتألم من شدة الضرب اما جميل-نينورتا فانه يترك نيبور ليعيش في الريف.

١٥٥ هاجم الوالي بعنف، وجعله يتوسل الرحمة،

١٥٦ أشبعه ضربا من الراس حتى أصابع القدمين،

١٥٧ حتى جعله يتوجع ويئن. (وقال له:)

١٥٨ الحقت بي الإهانة مرة واحدة،

١٥٩ وها قد اهنتك ثلاث مرات.

١٦٠ ثم تركه واختفي في ريف البلاد

١٦١ اما الوالي فقد عاد الي داره مترنحا.

وفي قراءة متأنية لخاتمة الحكاية، نلاحظ ان جميل-نينورتا لم ينجح فقط في اخذ ثأره والانتقام من الوالي ثلاث مرات، وانما، إضافة لذلك، قد كوفئ بوليمة فخمة في بيت الوالي، وحصوله على مانا من الذهب، وارتدائه ملابسا تليق برجل ثري. مثلت تلك المكاسب ما كانت تطمح له وتتمناه نفس جميل-نينورتا في بدء الحكاية. وتختلف نهاية قصة رجل نيبور الفقير عن الكثير من القصص الشعبية الشائعة وبالأخص حكايات ألف ليلة وليلة، بان البطل لا يقع في حب الاميرة بنت الملك، بل حتى ان القصة بأكملها تخلو من أي ذكر لدور المرأة. ومن الملفت للنظر بان غاية جميل-نينورتا كانت الانتقام لإهانته فقط وليس أكثر من ذلك. من الضروري جدا ان ندرس هذا النص من خلال ابعاده الزمانية والمكانية. ان مدينة نيبور السومرية مسرح الاحداث لهذه القصة، مثلت من خلال القراءات التاريخية والدلائل الاثارية المتراكمة عبر العصور، بانها كانت تمثل مركزا دينيا ومدينة علم في العراق القديم. سلطت قصة رجل نيبور الفقير الضوء على موضوعة النظام الطبقي وتراتبية الطبقات الاجتماعية في العراق القديم مما يوحي بوصول المدينة في الالف الثالث والثاني قبل الميلاد الي درجة من التعقيد لا تختلف كثيرا عما كانت عليه المدن في العراق أيام الخلافة العباسية. تناولت القصة أيضا ثنائية الثروة (ممثلة في والي نيبور) مقابل فقر العوام (تمثل في شخصية البطل جميل-نينورتا). اضافة الي ذلك، يتفق الباحثون على ان قصة رجل نيبور الفقير قد زودتنا بمعلومات ثمينة جدا تصور لنا طبيعة الحياة اليومية للعامة في نيبور ونمط الخطاب اليومي بين الناس أكثر من الوثائق المعتادة التي تم العثور عليها عبر عمليات التنقيب والتي عادة ما تكون ذات مضمون اداري بحت او متعلقة بالملوك والكهنة. في نفس الوقت علينا ان نتوخى الحذر عند قرائتنا لواقع نيبور كما رسمته الحكاية. فهي تلك المدينة التي يمكنك استبدال ثوب متهرئ بعنزة في سوقها، وكذلك من السهل على رجل معدم كجميل-نينورتا ان يدخل على الملك ويطلب منه عربة ملكية. مدينة اخرى اتى ذكرها في النص وهي مدينة ايسين السومرية والتي اشتهرت بكونها مدينة لأمهر الأطباء في العراق القديم. كلتا المدينتين كانتا مراكز مهمة في الالف الثالث والثاني قبل الميلاد.

وفي الختام يمكننا الاستنتاج بان قصة رجل نيبور الفقير تمثل مثالا فريدا للقصة الشعبية من ارض العراق وقد أثْرَتْ معرفتنا بعادات وتقاليد المجتمع في المدينة السومرية في الالف الثالث والثاني قبل الميلاد. وتختلف هذه الحكاية عن الكثير من القصص التي تلتها، بان البطل كان انسانا بسيطا لغاية جعلته ظروف فقره المدقع ضحية مكر واستغلال الوالي. نجد ثيمات مشابهة لتلك التي احتوتها الحكاية في قصص شعبية ظهرت متأخرة نسبيا في العراق والشرق الأدنى ولن نبالغ ان قلنا بان قصة رجل نيبور الفقير تعد أقدم حكاية شعبية عثر عليها حتى الان.

الهوامش:

(١) بعض المصادر تذكر بان تاريخ النص المكتشف على اللوح الطيني في مدينة سلطان تبي التركية يعود

للحقبة الاشورية الجديدة (٩١١ – ٦١٢ قبل الميلاد). هناك مصدران اخران لقصة "رجل نيبور الفقير" من مكتبة اشور بانيبال في نينوي ومن مدين نيبور نفسها الا ان النص لم يكن كاملا حتى العثور على نسخة سلطان تبي. ونستنتج من وجود عدة مصادر لنفس الحكاية في أماكن متعددة وبعيدة عن مدي انتشار تلك القصة في الالف الثاني والأول قبل الميلاد.

(٢) عنوان الرواية باللغة الإنكليزية هو The Poor Man of Nippur. وقد ترجمها او. ار. كيرني عن النص الأصلي المكتوب باللغة الاكدية، وصدرت لأول مرة باللغة الإنكليزية عام ١٩٥٦. عثرت على ترجمة واحدة للغة العربية من قبل الدكتور فاروق إسماعيل من سوريا تحت عنوان "الحاكم وفقير نيبور" وقد نشرها في مجلة الآداب الأجنبية من عدد صدر في خريف ٢٠٠٣. ان مقاطع القصة المنشورة في هذا المقال تعود لتلك الترجمة.

(٣) ورد الاسم بالإنكليزيةGimil-Ninurta. وتعني بالعربية جميل الاله نينورتا. ويمثل الاله نينورتا في نيبور أحد ثلاثي الالهة المقدسة مع والده الاله انليل أكبر الهة بلاد أكد وسومر وننيل زوجة الاله انليل.

(٤) تعمدت هنا استعمال لفظ الوالي بدل الحاكم اذ ان لفظ "والي" أقرب الي روح القصة الشعبية، كذلك لعدم الخلط بين لفظي الحاكم والملك الذي يأتي ذكره في نفس القصة.

(٥) مانا (او مينا) وهي من أقدم وحدات قياس الوزن التي اخترعها السومريون ويعتقد ان تاريخها يعود الي فترة حكم الملك السومري اور-نامو والذي تولى الحكم في بدايات القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد. ويعادل مان واحد (0.57 kg).

2 Comments


Nizar Al-Musawi
Nizar Al-Musawi
Jul 03, 2020

شكرا أستاذ علي خطا مطبعي تم تصحيحه تحياتي لك

Like

ali.jizany
Jul 03, 2020

جهد مميز في سرد الحكاية ولكن هنالك ملاحظة واحدة:

..في لقائهم الثالث (السطر ١١٥ – ١٣٩)، يغير جميل-نينورتا ملامحه ليظهر بمظهر طبيب قدم من مدينة ايسين من اجل معالجة جروح(الوالي) وليس (الملك) الناتجة من الضرب المبرح الذي تلقاه على يدي جميل-نينورتا.

(حيث ذكر ان جميل نينورتا ذهب لمعالجة جروح الملك ولكن بالحقيقة كان الوالي من يحتاج لعلاج جروحه)

Like
Post: Blog2_Post

Subscribe Form

Thanks for submitting!

©2020 by MesopotoMania. Proudly created with Wix.com

bottom of page