top of page

ايلوم-باني، عائلة عراقية من الالف الثاني قبل الميلاد

  • Writer: Nizar Al-Musawi
    Nizar Al-Musawi
  • Aug 2, 2020
  • 6 min read

Updated: Oct 13, 2020


اثار مدينة ماراد

يستهين البعض بحضارة بلاد ما بين النهرين القديمة كونها حضارة "طينية"، مقارنة بنظيراتها كالفرعونية والاغريقية والرومانية، واللواتي تركن صروحا عالية وقصورا ضخمة واطلال مدنا جذابة. على العكس، من يقرأ عن مدن سومر الكبرى كأوروك و إور و نيبور وكيش، يكاد يُصْدَمْ عند زيارتها لأولِ مرة ليجد أكواماً من التراب وتلالاً جرداء منتشرة وسط صحراء مقفرة. يُمثّلُ إهمال تلك الأماكن الاثرية خلال العقود الماضية من قبل الجهات الرسمية المختصة مع انعدام بنية تحتية تسمح لسياحة اثارية بالارتقاء، عقبات تعمل على ترسيخ تلك القناعات عن حضارات العراق القديمة. لكن من يدرس تاريخ العراق القديم والحضارات التي توالت على ارضه، من دويلات سومر في بدايات الألف الثالث قبل الميلاد مرورا بالإمبراطورية الاكدية ومن ثم البابلية والاشورية في الألفين الثاني والأول قبل الميلاد والاقوام الأخرى التي غزت العراق واقامت حضارات على ارضه، يكتشف ان ما يميز حضارة بلاد ما بين النهرين عن نظيراتها وعلى مدى ثلاثة الاف عام هو لوح الطين. في ما يقارب العام ٣٢٠٠ قبل الميلاد خُطَّ الحرف الأول باستخدام قطعة من القصب على لوح طيني في مدينة إوروك السومرية. منذ ذلك التاريخ تطورت الكتابة الاولى والتي عرفت بالكتابة المسمارية (cuneiform ) و إنتهى عهدٌ وبدأ عهد. من هنا بدا التاريخ وما قبل ذلك بات يعرف "ما قبل التاريخ". انتشرت الكتابة المسمارية بين أمم الشرق الأدنى واستمر استخدامها لما يقارب ثلاثة ألاف عام، ويحتفظ المتحف البريطاني بلوح طيني يعود تاريخه للعام ٦١ بعد الميلاد يمثل اخر الالواح المكتشفة الى الان كُتِبَ بالخط المسماري. لم يأتِ تسطير الكلمة الاولى صدفةً ولم يكن السبب وراء اختراع الكتابة تدوين تراتيل دينية للمعبد السومري او كتابة مرثيات لملوك إوروك او اسطورة سومرية، بل قضت الضرورة باختراع الكتابة مع نشوء المدينة الاولى ومجاراة نموها الاقتصادي والاجتماعي، ولا نعجب ان علمنا بان أقدم الواح الطين التي عثر عليها المنقبون قد دوّنَتْ توزيع حصص طعام كأجور لعمال.


اقام سكان العراق الأوائل علاقات تجارية واسعة مع الأمم والحضارات المعاصرة والمجاورة لهم، ولعل ما اكتشف في مقبرة أور الملكية يدلُّ على مدى اتساع النشاط التجاري للسومريين في عهد فجر السلالات (٢٩٠٠ – ٢٣٥٠ ق م). فالصخور والاخشاب والنحاس والأحجار الثمينة لا تتوفر في ارض سومر وكانت تجلب من الأراضي البعيدة مقابل ما تجود به تربة العراق الخصبة من محاصيل غذائية متنوعة وما تنتجه المصانع البسيطة من نسيج يدوي. وما لا يندر تواجده في تربة السهل الرسوبي العراقي هو الماء والطين. كان الكُتّابْ والخطاطون يجمعون ما يحتاجون إليه من الطين من ضفاف دجلة والفرات في مواسم واماكن محددة، ومع تطور الكتابة وتسارع نمو المدن واتساع نشاطها الاقتصادي والسياسي/الديني والاجتماعي، أزداد عدد الكُتّابْ لِيُكَوِنوا شريحة أساسية من الطبقة الوسطى مرتبطة بعلاقات وثيقة مع القصر الملكي والمعبد وشبكة التجار. لم يَدُرْ في مخيلة هؤلاء الكتاب بأنّ تلك الالواح الطينية يمكنها ان تحافظ على شكلها الأول بعد ان يطمرها التراب لألاف السنين، على عكس رقائق الجلود والورق التي اعتمدت عليها الحضارات المتأخرة والتي لم يكتب لها البقاء أمداً طويلا. نتيجة لذلك حفظت لنا تربة العراق مئات الالاف من الالواح الطينية التي ساهمت في كتابة تاريخ تلك الحقب الزمنية الموغلة في القدم وزادت في اثراء معرفتنا بطبيعة الحياة اليومية للفرد البسيط في مدن ارض سومر وأكد الاولى. يقدر عدد الالواح الطينية التي عثر عليها في العراق منذ بدء عهد التنقيبات الاثرية في الشرق الأدنى في منتصف القرن التاسع عشر الى الان ما يقارب المليون لوح منتشرة في متاحف دول العالم، ولا يزال عدد اخر كبير مطمور تحت الأرض بانتظار معاول المنقبين. لم يكن الغرض من كتابة هذه الالواح أنْ تُحفَظَ لمئات والالف السنين بهدف استكشافها وقراءتها من قبل الأجيال القادمة، بل على العكس، ان الكثير من تلك الألواح قد عثر عليها في مقابر دفنت فيها لغرض التخلص منها. يتنوع محتوى الألواح المكتشفة ولكن اغلبيتها ذات طبيعة إدارية كعقود بيع وشراء او عقود زواج او الواح لصِبْيَة في بدء تعلمهم الكتابة المسمارية عند الكُتّابْ (ويسمي أي-دوب-با) و معظم الألواح الطينية تخلو من اية قيمة فنية او ادبية. هذه الالواح الطينية هي ما تتميز به حضارة العراق القديمة، اذ يندر ان حفظت لنا الحضارات الأخرى تفاصيل دقيقة عن حياة الناس قبل أربعة الاف عام. يذكر عالم الاشوريات الفرنسي جورج رو، مؤلف كتاب العراق القديم، بأن ما نعرفه عن تاريخ العراق القديم بين ٢١٠٠ – ١٨٠٠ قبل الميلاد (حقبة سلالة أور الثالثة وتليها حقبة إيسين - لارسا) من خلال الكم الهائل من الالواح الطينية التي تؤرخ لتلك الفترة الزمنية، يفوق بكثير ما نعرفه عن تاريخ اوروبا في القرنين العاشر والحادي عشر ميلادي. ويصف البروفيسور وعالم الاشوريات البريطاني أرڤن فنكل الالواح الطينية في العراق القديم "بكبسولات الزمن"، التي تنقل لنا صورا متنوعة عن طبيعة الحياة قبل الاف السنين.


وسأقدم هنا نموذجا لمجموعة من الالواح الطينية التي تعود لأرشيف عائلة عراقية كانت تسكن مدينة ماراد السومرية في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وبالتحديد في الفترة بين ١٨٨٠ – ١٨٥٠ ق م. وتقع مدينة ماراد في محافظة القادسية (الديوانية) وتعرف بتل وناط السدوم على الجانب الغربي من نهر الفرات وعلى نهر اراختو المندثر والذي كان يتفرع من الفرات. تمثل مدينة ماراد، مع مدينة كازالو القريبة منها، الحدود الفاصلة تقريبا بين ارضي سومر وأكد، حيث تبعد ٥٠ كيلومترا عن مدينة كيش جنوبا. لا يعرف مصدر تلك الالواح اذ ان التنقيب عنها تم بطرق غير قانونية وانتقلت الى سوق الانتيكات ومن ثم انتهت في متاحف الغرب لغرض العرض والدراسة. عرفت تلك المجموعة والمكونة من ١٨ عشر لوحا طينيا، بإسم رب العائلة ايلوم-باني، وتضم عقود بيع وشراء متعددة لعائلة ايلوم-باني وأولاده. وقد استدل الباحثون بأن مصدر الالواح هو مدينة ماراد حيث دونت تلك العقود تواريخ البيع والشراء نسبة الى سنوات حكم الملك في تلك الفترة وكذلك تأدية القسم باسم إله المدينة لوكال-مارادا.

يصف لنا اللوح الأول والمرقم AUCT 4 6 عقدا اشترى بموجبه رب العائلة ايلوم-باني قطعة ارض من نور-عشتار بمقدار ١٠شيكلات من الفضة، ويعادل الشيكل الواحد من الفضة في العراق القديم ما يقارب عشرة غرامات. ولكي نعرف أكثر قيمة تلك الأرض كانت اجرة العمل اليدوي للفرد لشهر كامل شيكلا واحدا من الفضة. اما مساحة الأرض فلم تكن واضحة اذ كتبت: [X]+1 SAR]. وكان العراقيون القدماء يستخدمون طابوقة ذات قياسات محددة لحساب المساحة وكان السار SAR الواحد يعادل مساحة ٧٢٠ طابوقة. يحمل هذا اللوح الطيني تأريخ العام الرابع من حكم الملك حالون-بي-اومو والملك بور-سين. وفي لوح طيني اخر نعلم بان ايلوم-باني قد اشترى بستانين للنخيل في العام العاشر للملك سومو-ديتانا وكان البائعان شخصين هما ابيق-عشتار بوزور-بوشان وثمن الارضين تم دفعه بكمية من الشعير. نتعرف من أرشيف العائلة بأن لايلوم-باني خمسة ابناء جميعهم قد امتهنوا بيع و شراء الأراضي الزراعية و بالاخص بساتين النخيل. تذكر النصوص اسماء الأبناء الخمسة: سين-ليديش و كو-نينشوبور وايلي-ايسمياني و ايلشو-ابيشو وعشتار-بلطيني. ويتبين من العقود المكتوبة على هذه الالواح الطينية بأن سين-ليديش و أخاه كو-نينشوبور كانا الأكثر انخراطا من اخوتهم الاخرين في بيع و شراء الأراضي الزراعية وذلك لكثرة العقود المبرمة بأسمائهم. نستنتج من لوح اخر (لوح سبيليرز ٢٣٤) والمؤرخ في السنة الثالثة للملك سومو-نوم حيم بأن ايلوم-باني اشترو بستانين للنخيل من قبل شخص يدعي سين-موباليت ولكن يضيف النص بان كو-نينشوبور، ابن ايلوم-باني، قد استملك الأرض. و على الاغلب ان رب العائلة ايلوم-باني قد توفي في تلك الأثناء وأكمل عقد الشراء ولده كو-نينشوبور، ومما يدعم هذا الراي هو اختفاء اسم ايلوم-باني في العقود التي تلته. من الجدير بالذكر ان البائع كان بالمعتاد يمنح المالك الجديد حجة الأرض السابقة كي يضمن المشتري بان لا يظهر المالك الأول للأرض ويطالب بأرضه. وقد ضم أرشيف عائلة ايلوم-باني عقد تملك لبستان النخل المذكور انفا (لوح سبيليرز ٢٣٤) يوثق بيع كل من ايرا-ايميتي وزوجته بيلاتوم البستان للمدعو سين-موباليت واحتفظ كو-نينشوبور بهذا العقد كي لا يظهر في المستقبل ايرا-ايميتي او زوجته ليطالبا بالبستان.

ترسم لنا تلك الالواح البسيطة صورة ثرية عن طبيعة العلاقات الاجتماعية في مدينة ماراد السومرية الصغيرة. فالواقع الاقتصادي يشير الى مجتمع طبقي ذو نشاط تجاري معقد لا يختلف عن نظيره في مدن العراق في القرن التاسع عشر الميلادي في أواخر حكم الدولة العثمانية. يلاحظ كذلك توثيق تأدية القسم عند إله المدينة الأكبر في جميع تلك العقود، ونلاحظ ان هذا العرف قد استمر الي بدايات القرن العشرين حيث يتوجه البائع والشاري لحضرة الولي او الامام لتأدية القسم، اذ يعتقد الفرد العراقي كما كان يؤمن اسلافه قبل أربعة الاف عام بأن من ينكث شروط العقد ستحل عليه لعنة الاله (لوكال-مارادا في نصوص عائلة ايلوم-باني) وعقاب الله بعد ان استخف بأحد أوليائه الصالحين. علاوة على ذلك، منحتنا الواح عائلة ايلوم-باني بصورة غير مباشرة معلومات تاريخية قيمة عن تسلسل الحكام الذي حكموا ماراد في القرن الثامن عشر الميلادي. لم تكن مدينة ماراد ذات شأن سياسي او ديني متميز ولم يذكر بانها كانت مدينة كبيرة. لكن من التسلسل الزمني لتلك الالواح علمنا بان أقدمها كان في زمن حكم الملك بور-سين أحد حكام مدينة إيسين الشهيرة حيث كانت ماراد تحت سيطرة سلالة إيسين الى ما يقارب ١٨٩٠-١٨٨٥ قبل الميلاد. توالى بعد ذلك حكام محليون حيث يعتقد ان ماراد حكمت في تلك الفترة بصورة مستقلة عن إيسين وتذكر الالواح لنا أسماؤهم: حالون-بي-اومو (١٨٩٠ – ١٨٧٩ ق م) وسومو-ديتانا (١٨٧٨ – ١٨٧١ق م) وسومو-نوم حيم (١٨٧٠ -١٨٦٤ ق م) ويامسي-ايل (١٨٦٤ – ١٨٦٢ ق م). كان من الصعب على الباحث ان يصل الى ذلك التسلسل لولا قراءة الواح ماراد وبالأخص أرشيف عائلة ايلوم-باني، اذ ان المدن الصغيرة نادرا ما يتم ذكر حكامها في التقارير والرسائل الملكية. وهكذا تتبين لنا أهمية حضارة العراق الطينية وما تركه لنا الاسلاف من نصوص خطت بأعواد القصب على الواح طينية عادة ما تكون بحجم راحة اليد وما يزال الكثير من تلك الالواح بانتظار من يقرؤها لفك رموزها، إضافة لما تحتضنه تربة العراق من إرث ثري من الالواح بانتظار جيل قادم يأخذ على عاتقه مهمة الاستمرار في كشف تاريخ وحضارة العراق القديم.

 
 
 

Comments


Post: Blog2_Post

Subscribe Form

Thanks for submitting!

©2020 by MesopotoMania. Proudly created with Wix.com

bottom of page