top of page

"طبيب إيسين الأُمي" نموذج للادب الفكاهي من العراق القديم

  • Writer: Nizar Al-Musawi
    Nizar Al-Musawi
  • Oct 13, 2020
  • 9 min read

Updated: Aug 19, 2024




في العام ١٩٧٩ قام خبير الاشوريات انطوان كافينوا بترجمة نص قصير وجد مكتوبا على لوح طيني يعود للعهد البابلي الجديد. عُثِرَ على النص في اثار بيت يقع في مدينة اوروك السومرية (مدينة الوركاء حاليا في جنوب العراق). يعود تاريخ كتابة النص الى السنة الأولى من حكم الملك نابو-بلاسو-اكبي عام ٨١٨ قبل الميلاد. استنتج كافينوا، متحفظا، بأن النص قد يمثل نموذجا لأدب الفكاهة في العراق القديم. عُرِفَت هذه القصة القصيرة جدا بعنوان: "نينورتا-باكيدات وعضة الكلب" وكذلك "طبيب إيسين الأُمي". استقطب النص اهتمام اخرين منهم العالمة ايريكا راينر والتي طرحت عام ١٩٨٦ قراءة جديدة سلطت فيها الضوء على موضوعة الفكاهة في هذه القصة وتلت ذلك قراءات متعددة كانت أهمها لعالم الاشوريات الانكليزي اندرو جورج في تسعينيات القرن الماضي. لم يكن هذا النص الأول من نوعه. ففي العام١٩٥٢ فوجي العلماء باكتشاف لوح طيني في مدينة سلطان تبي التركية (تحوي اثار مدينة خوزيرينا الاشورية) يسرد لنا قصة رجل فقير من مدينة نيبور وتفاصيل انتقامه من حاكم المدينة لما تعرض له من إهانة. تمت ترجمة ذلك النص و حمل عنوان "رجل نيبور الفقير"(٢) عام ١٩٥٦ واعتبر نموذجا للحكاية الشعبية من العراق القديم واتفق على انها أقدم قصة فولكلورية تم اكتشافها حتى وقتنا الحاضر.

عرفت بلاد ما بين النهرين في التاريخ القديم بغزارة وتنوع ارثها الحضاري الذي حفظته لنا عشرات الالاف من الالواح الطينية المكتشفة في أنحاء العراق والتي يمتد تاريخها من أواخر الالف الرابع قبل الميلاد، عندما خط الحرف الأول في مدينة اوروك، ولغاية القرن الأول الميلادي حيث يعود تاريخ آخر الالواح الطينية المكتشفة والمكتوبة بالخط المسماري الى ذلك القرن. مثلت تلك الحقبة الممتدة على مدار ثلاثة الاف عام، بدايات صعود دويلات سومر الأولى في مدن اوروك وأريدو و أُورْ و من ثم قيام الإمبراطورية الاكدية ببسط سيطرتها على معظم وسط و جنوب العراق و ووصولها لسواحل البحر المتوسط و سواحل الخليج العربي. ومع انتهاء الحكم السومري بسقوط سلالة اور الثالثة على يد الغزاة العيلامين أواخر الالف الثالث قبل الميلاد، تميّزَ الالف الثاني والالف الأول قبل الميلاد بصعود الامبراطوريتين البابلية في وسط العراق والإمبراطورية الاشورية في شماله ولتنتهي تلك الحقبة بغزو الفرس في القرن الخامس قبل الميلاد وسقوط حكم البابليين. اتسمت تلك الحضارات المتعاقبة بكثرة التدوين على الواح الطين وبفضل جهود المئات من الكتبة، اكتشفت نصوص تراوحت في مضمونها ما بين عقود بيع وشراء بسيطة والواح لتعلم الكتابة في الكُتّابْ الى تعويذات للشفاء من الامراض واشعار لآلهة ومرثيات لملوك وملاحم واساطير خالدة. ولعل ما عُثِرَ عليه في مكتبة اشوربانيبال في نينوي من قبل المنقب البريطاني هنري اوستن لايرد يجسد لنا أروع ما انتجته تلك الحضارات المتعاقبة من ارث ثقافي ومعرفي.

يحكي نص "طبيب إيسين الأمي" او "باكيدات-نينورتا وعضة الكلب" قصة نينورتا-باكيدات أحد الوجهاء في مدينة نيبور وقد عضه كلب فتوجه الى مدينة ايسين للعلاج عند الطبيب امل-بابا والذي كان يشغل أيضا منصب كبير كهنة معبد الالهة كولا، الهة الشفاء في العراق القديم. وبعد ان قرأ أمل-بابا تعويذة وطبب الجرح الناتج من عضة الكلب، تماثل نينورتا-باكيدات للشفاء. ولرد الجميل دعا نينورتا-باكيدات الطبيب امل-بابا لزيارته في مدينته نيبور واعدا إياه بان يقدم له رداء فاخرا وطعاما ممتازا وقارورتين من اجود أنواع الجعة. سأل امل-بابا نينورتا-باكيدات عن كيفية الوصول الي بيته حين يقوم بزيارة نيبور. اعطى نينورتا-باكيدات تفصيلات معقدة عن كيفية الوصول وذلك بالسؤال عن سيدة تفترش الارض تبيع الخضار، سترشد امل-بابا الى بيت نينورتا-باكيدات. تتصاعد حبكة النص بالحوار الدائر بين امل-بابا وبلطيه-شارات-ابسي والذي يسلط الضوء على مفارقة التخاطب باللغتين السومرية و الاكدية، حيث يؤدي جهل الطبيب باللغة السومرية الى سوء فهم واعتقاد بان بائعة الخضار كانت تلعنه عدة مرات باستخدامها لغة لا يفقهها. ينتهي الامر بأن ينفذ صبر بائعة الخضار بسبب جهل امل-بابا باللغة السومرية فتطلب من طلبة المدرسة الذي احاطوا بها بان يطردوا هذا الغريب خارج اسوار مدينة نيبور.

يبدأ النص هكذا:

نينورتا-باكيدات، (اخ) نينورتا-شا-كونا-ايرامو (وابن اخ) انليل-نيبورو-انا-اشريشو-تر، قد عضه الكلب فذهب للعلاج الى ايسين، مدينة سيدة الشفاء. ذهب الى امل-بابا في ايسين، كبير كهنة الالهة كولا، فقرأ عليه وردد بعض التعاويذ، فشفي على يديه.

"ليباركك انليل، إله مدينة نيبور، للتعافي على يديك! يجب عليك ان تأتي لمدينتي نيبور، فسأقدم لك رداءا واطعمك أفضل اللحوم، وأقدم لك أفضل قارورتين من أفضل شراب الشعير (البيرة)"

"اين تسكن بالضبط في نيبور عندما آتي اليك؟"

"عندما تأتي الى مدينتي نيبور عليك الدخول من الباب الكبيرة. دع على يسارك الشارع العريض، والطريق المشجر، والشارع الأيمن، الطريق الى نوسكا ونينيما. ستجد بلطية-شارات-ابسي، ابنة راعيم-كيني-مردوخ و (زوجة ابن) نيشو-انا-أيا-تاكلا، والتي تعمل في بستان انليل الوافر، ستجدها جالسة في الشارع الأيمن تبيع الخضار- إسألها وهي ستدلك"


قَدِمَ امل-بابا، كبير كهنة معبد الاله كولا في إيسين الى مدينة نيبور. ترك الشارع العريض، والطريق المشجر، والشارع الأيمن، (الطريق الى نوسكا ونينيما)، على يساره. وجد(بلطية) ـ-شارات-ابسي، ابنة راعيم-كيني-مردوخ و (زوجة ابن) نيشو-انا-أيا-تاكلا، والتي تعمل في بستان انليل الوافر، تجلس في الشارع الأيمن تبيع الخضار"

"هل انت بلطية-شارات-ابسي؟"

"ان-ني-لو-كال-مو"

"لماذا تشتميني؟"

"ولماذا اشتمك! ما قلته لك هو، نعم يا سيدي؟"

" هل لك ان ترشديني الى منزل نينورتا-باكيدات، (اخ) نينورتا-شا-كونا-ايرامو (وابن اخ) انليل-نيبورو-انا-اشريشو-تر؟"

"نام-توش-مي-ان"

"لماذا تشتميني؟"

"ولماذا اشتمك! ما قلته لك هو: انه ليس في البيت يا سيدي"

"والى اين ذهب؟"

"أي-دنكير-بي-شو-زي-ان-نا-سزكور كابا-ري-مو-اون-بالا"

"لماذا تشتميني؟"

"ولماذا اشتمك! انه (في المعبد) يقدم نذرا لإلههِ شوزيانا... انه (غبي بحق) هذا الرجل! على الطلاب ان يأتوا كمجموعة ليطردوه بألواح الدرس خارج الباب الكبير".

انتهى النص.

يواجه الباحث عسرا في دراسة وتحليل هذا النص الادبي بالرغم من قصره، وتكمن الصعوبة في معرفة الغرض من كتابة هذه القصة وكذلك الظرف الزمني والبيئة الاجتماعية المحيطة التي رأى النص فيها النور. يسهل على القارئ في وقتنا الحاضر العثور على مصدر الفكاهة خلال قراءته لهذه القصة، ولكن لا نعلم ان كان المتلقي قبل ما يقارب الثلاثة الاف عام يشترك في رؤيته للنص كما نراها نحن اليوم. تصف لنا الباحثة اريكا رينر صعوبة هكذا استنتاج اذ ان “من وجهة نظر حديثة علينا ان نتوخى الحذر في تقييمنا للفكاهة التي نجدها في القصص والحكايات في الادب القديم، اذ ان تلك النصوص قد كتبت لأغراض متعددة، ومع عدم توفر نصوص كافية ومادة تصلح للمقارنة من تلك الفترة، ليس بمقدورنا ان نحدد الخصائص الأدبية لتلك القصص والحكايات او حصر نمطها الادبي" و يزداد الامر صعوبة لكون الفكاهة ظاهرة اجتماعية و " وكجميع الظواهر الاجتماعية، فهي تختلف تاريخيا مع تباين المجتمعات والثقافات واختلاف البعد التاريخي الذي نشأت الفكاهة فيه " ( فرانكو دي اكوستينو). عند دراسة هذه القصة القصيرة يتوجب علينا أن نسلط الضوء على أوجه متعددة نحاول من خلالها إدراك الغرض من كتابة النص والبعد الهزلي المتضمن داخله اخذين بنظر الاعتبار البيئة الاجتماعية التي نشا فيها وابعاده الزمانية والمكانية.

تمثل اللغة واستخدام مفرداتها العديدة في قصة "طبيب ايسين الامي" المحور الرئيسي لدراسة النص. وقبل ان نبدأ في دراستنا للمفردات والأسماء السومرية المستعملة في هذه القصة علينا ان نعرف ان اللغة السائدة في بلاد الرافدين في الالف الأول قبل الميلاد وبالتحديد في زمن كتابة هذه القصة في القرن التاسع كانت اللغة الاكدية بلهجتيها البابلية والاشورية. اما السومرية كانت هي اللغة الشائعة في جنوب العراق في الالف الثالث ق.م.، وحينما بسط الأكديون سيطرتهم على معظم ارض بلاد ما بين النهرين في القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد أصبحت الاكدية هي اللغة الغالبة وتراجع استعمال السومرية شيئا فشيئا ولكنها مع ذلك بقيت لغة التخاطب والكتابة بين الكهنة في المعابد وبعض طبقات المجتمع العليا. وتعتبر الاكدية ام اللغات السامية مما سهل انتشارها بين الاقوام السامية التي هاجرت الى العراق واستقرت في ارضه في الالفين الثاني والأول قبل الميلاد كالعموريين والاراميين، على عكس السومرية التي تصنف كلغة منعزلة لا تمت الى اللغات المجاورة بصلة. هنا يطرح التساؤل الأول: إنْ كانت اللغة السومرية في زمن كتابة هذا النص قد اندثرت منذ ما يقارب الالف عام فما هو السبب في تعريف الشخصية الرئيسية في القصة (نينورتا-باكيدات) وأقربائه باسماء سومرية مركبة. إضافة الى ذلك ما الجدوى من الحوار العقيم بين بائعة الخضار التي تصر على التكلم بالسومرية مع الطبيب القادم من ايسين والذي لم يفقه حرفا مما قالته. مما يساعد على إجابة هذا السؤال هو المكان الذي وجد النص فيه. عثر المنقبون على هذا اللوح في اثار بيت قديم كان عبارة عن مدرسة صغيرة (او ما يسمى الكُتّابْ او المُلاّ في لهجتنا العراقية الحالية) (٣) في اثار مدينة اوروك السومرية. يمكننا الاستنتاج اذن بان النص كان ذا طابع تعليمي وقد استخدمه المدرس في تعليم صغار الكتبة اللغة السومرية قراءة وكتابة. مما يؤيد هذا الرأي هو عثور كافينوا على لائحة لاسما مترجمة من الاكدية الى السومرية تتضمن اسماء بطل القصة نينورتا-باكيدات وافراد عائلته المذكورة أسماؤه في الاسطر الثلاثة الأولى من القصة إضافة الى اسماء العديد من ابناء واحفاد مجموعة من الكتاب المعروفين في ذلك الوقت مما يشير الى احتمالية آن البطل نينورتا-باكيدات وأقربائه كانوا شخصيات حقيقية عاشت في مدينة نيبور في ذلك الزمان. إضافة الى ذلك، وصف كاتب القصة في المشهد الأخير تجمع الطلاب حول بائعة الخضار مما يوحي بانهم قد كانوا طلاب مدرسته. وفقا لذلك استنتج الدارسون لقصة طبيب آيسين الامي بأن الهدف من كتابة هذا النص الساخر هو استخدامه كوسيلة إيضاح من قبل المعلم في محاولة لإرشاد طلابه الى كيفية قراءة الأسماء المذكورة في النص ومعرفة معانيها وطريقة كتابتها باللغتين السومرية والاكدية بدل ان يقدمها لهم في قائمة مُملة من الكلمات الاكدية وما يقابلها بالسومرية.

تشكل مفارقة استخدام اللغتين السومرية والاكدية محور الهزل في القصة، ومع استثناء اسم طبيب ايسين (امل-بابا) اليسير نطقه وفهمه، جاءت اسماء بطل القصة وأقربائه وكذلك بائعة الخضار واسماء اقاربها بصورة مركبة وصعبة الفهم والنطق على الطبيب الذي لا يفقه اللغة السومرية. إضافة الى ذلك، كان وصف نينورتا-باكيدات لطريقة الوصول المعقدة الى بيته في نيبور لأمل-بابا مصدرا للفكاهة في النص:

(عندما تأتي الى مدينتي نيبور عليك الدخول من الباب الكبيرة. دع على يسارك الشارع العريض، والطريق المشجر، والشارع الأيمن، الطريق الى نوسكا ونينيما. ستجد بلطية-شارات-ابسي، ابنة راعيم-كيني-مردوخ و (زوجة ابن) نيشو-انا-أيا-تاكلا، والتي تعمل في بستان انليل الوافر، ستجدها جالسة في الشارع الأيمن تبيع الخضار- إسألهت وهي ستدلك) – لاحظ اسم "الشارع الأيمن" الذي يقع على "اليسار" عند دخول الطبيب الى مدينة نيبور (الايضاح من قبلي).


تعتقد الباحثة ايريكا رينر ان الفكاهة في هذا النص تظهر بصورة جلية في الحوار العقيم بين بائعة الخضار بلطية-شارات-ابسي مع امل-بابا. من الملفت للنظر في هذا الحوار هو وصف كاتب القصة لشخصية بلطية-شارات-ابسي، والتي بالرغم من مهنتها المتواضعة كبائعة خضار يظهر لنا إصرارها على التكلم باللغة السومرية المنقرضة منذ أكثر من ألف عام مقابل شخصية الطبيب امل-بابا الذي لم يفقه شيئا من حديثها معه. هذا التوظيف من قبل الكاتب كان متعمدا حيث من المستحيل ان تلم امرأة أميّة في مجتمع اقتصرت فيه القراءة والكتابة على المعلمين والعاملين في المعبد والقصر الملكي على التحدث بلغة زالت منذ ما يقارب الالف عام. في مقابل ذلك يظهر لنا طبيب مدينة ايسين وكاهن معبدها وبالرغم من دراسته واطلاعه على التعاويذ والسحر والنصوص الدينية الا انه لا يفقه التحدث باللغة السومرية. يفسر الدارسون تلك المفارقة بين شخصية الطبيب وبائعة الخضار في هذه القصة بانها تنتمي الى موضوع الانقلاب الرمزي. يُعرَّفْ علماء الاجتماع مصطلح الانقلاب الرمزي (Symbolic Inversion) بانه “أي فعل من أفعال السلوك التعبيري الذي يقلب أو يتعارض أو يلغي أو يقدم بطريقة ما بديلاً للقواعد والقيم والمعايير الثقافية الشائعة سواء كانت لغوية أو فنية أو دينية أو اجتماعية أو سياسية". من الجدير بالذكر، ان بإمكاننا العثور على صور واشكال متعددة في ادب العراق القديم تجسد فكرة الانقلاب الرمزي. ففي ملحمة كلكامش نجدها تتجسد في دور المومس شمحات مقابل دور الالهة عشتار. فبالرغم من المكانة الاجتماعية الوضيعة للمرأة العاهرة في مجتمعات العراق القديم، تقدم لنا ملحمة كلكامش المومس شمحات بشخصية تتميز بحكمة ورجاحة عقل تظهر جليا في حواراتها مع انكيدو، حيث كانت مهمتها الرئيسية إغواء انكيدو ومعاشرته لسبع ليال متتالية لتصنع منه انسانا متحضرا بعد ان كان يهيم مع الحيوانات والوحوش في الغابات والبراري. في المقابل نجد عشتار، الهة الحب والحرب، تطلب من كلكامش ان يتزوجها بعد ان رأت شجاعته في قتله للوحش خومبابا، واعدة إياه بذهب وجاه و كنوز فور موافقته على طلبها. على العكس، يرفض كلكامش طلبها بل ويهينها ويذكرها بما فعلت مع ازواجها السابقين. هل هكذا يتحدث بشر (او نصف بشر) مع إله؟ اما عالم الاشوريات البريطاني اندرو جورج يعطينا راي اخر في موضع الفكاهة في قصة طبيب ايسين الامي. يأخذ جورج بنظر الاعتبار العوامل السوسيولوجية والبيئة الجغرافية التي تدور فيها تفاصيل القصة. ذكر النص مدينتي نيبور (٤) وايسين السومريتين وذلك بانتماء الشخصيتين نينورتا-باكيدات وبلطيه-شارات-ابسي الى مدينة نيبور والطبيب امل-بابا الى مدينة ايسين. عرفت مدينة ايسين بكونها تضم معبد الالهة كولا-الهة الشفاء- والتي يرمز لها بكلب وتميزت بمهارة كهنتها واطباؤها في معالجة الامراض السائدة آنذاك، ولذلك كان يقصدها الأثرياء من المدن السومرية الأخرى ان اصابتهم علة او وعكة صحية. اما نيبور فكانت العاصمة الدينية للسومريين واستمرت تحتل هذه المكانة الى أواخر الالف الثاني ق.م وتميزت كذلك بكثرة مدارسها وجودة التعليم فيها. ويعتقد الباحثون من خلال قراءتهم لتاريخ المدينتين مما توفر في الالواح الطينية المكتشفة الى الان، ان نوعا من التوجس والحذر كان يشوب العلاقة بين ابناء المدينتين. إضافة الى ذلك، تشير بعض النصوص الى ان مدينة نيبور كانت تتصف ببخل أثريائها. من خلال هذا الفهم يمكننا تصور موقع السخرية في هذه القصة. فنينورتا-باكيدات، ذلك الرجل الثري من نيبور وبعد ان اتم علاجه في مدينة ايسين، لم يقم بدفع أجور العلاج مباشرة الى الطبيب امل-بابا. عوضا عن ذلك يعد نينورتا-باكيدات الطبيب بوليمة فاخرة وشراب جيد ورداءاً ممتاز فور زيارة الطبيب له في نيبور. يصف نينورتا-باكيدات عنوان سكنه بطريقة صعبة وغير مباشرة. فالوصف المعقد لشوارع مدينة نيبور لا ينتهي بوصول الطبيب الى بيت نينورتا-باكيدات وانما الى بائعة خضار في الشارع والتي من المفترض ان ترشده الى البيت المطلوب. يجد اندرو جورج في هذا السرد للقصة خطة من قبل نينورتا-باكيدات وقد تكون بالتواطؤ مع بائعة الخضار للتملص من دفع ما عليه دون ان تتأثر سمعته كتاجر ثري. فهو لم يمتنع عن دفع اجر الطبيب وانما وعده بأجرته عندما يزوره في نيبور، وانه ليس السبب في عدم تمكن الطبيب من الوصول الى عنوان بيته (بيت نينورتا-باكيدات) لينتهي المطاف بالطبيب بالخروج من نيبور مهانا بعد ان أمرت بلطية-شارات-ابسي طلاب المدرسة بطرده، وبذلك حسبت هذه الحيلة انتصارا لنيبور على ايسين.


يمكننا ختاما القول بان هذا النص القصصي، بالرغم من قصره، يثري معرفتنا المتواضعة للنصوص الأدبية في العراق القديم التي تلقي بنظرة عن البيئة الاجتماعية والتركيب الديموغرافي لمجتمع المدن في الالفين الثاني والأول قبل الميلاد ومع عدم توفر نصوص مشابهة أخرى يصعب على الباحث الجزم بالغرض من كتابة هكذا نص وستبقى هذه النصوص موضوعا لدراسات نقدية متجددة مع اكتشاف الواح طينية متشابهة في بيئة العراق الثرية.

الهوامش:

(1) تقع مدينة ايسين في محافظة القادسية جنوب العراق وتقع بقاياها اليوم نحو ٢٠٠ كم جنوب شرق بغداد وتبعد عن الناصرية بخمسة وأربعين كيلومترا غرب الناصرية وتعرف اثارها بتلال ايشان البحريات.

(2) تناولتُ قصة رجل نيبور الفقير في مقال سابق بعنوان "الحكاية الشعبية في العراق القديم"، والرابط للمقال موجود في صفحة ميسوبوتومانيا.

(3) يختلف معنى المدرسة في العراق القديم عن مفهومنا لها حاليا. فالمدرسة (كانت تسمى أي-دوب-با) عبارة عن مجموعة صغيرة من الصبية عادة من الذكور يذهبون لغرض تعلم القراءة والكتابة عند معلم في بيته. تشابه الى حد كبير وظيفة الملا او الكتاب قبل انتشار المدارس الحديثة في بدايات القرن العشرين في العراق. ولم تكن متاحة لعامة الناس وانما فقط للأثرياء وابنا الطبقات العليا في المجتمع.

(4) تقع مدينة نيبور (ناحية نفر حاليا) في محافظة القادسية وتتبع إداريا الى قضا عفك وبمسافة ١٧٥ جنوب بغداد.

 
 
 

Comments


Post: Blog2_Post

Subscribe Form

Thanks for submitting!

©2020 by MesopotoMania. Proudly created with Wix.com

bottom of page