top of page

آدابا، الحكيم الأول، بين الأسطورة واللاهوت

  • Writer: Nizar Al-Musawi
    Nizar Al-Musawi
  • Jun 8, 2020
  • 7 min read

Updated: Jul 16, 2024





تمثل اساطير بلاد ما بين النهرين اولى النصوص الأدبية التي عرفها التاريخ. فآلى جانب الشعر وتراتيل المعبد والتعويذات والمرثيات، شكلت الأسطورة القديمة مصدرا ذو قيمة معرفية مهمة أفادت في صياغة فهمنا لطبيعة المجتمع في مدن العراق القديمة، إضافة الي دراية في طبيعة التقاليد والعقائد السائدة بين الاقوام المتتابعة والتي استوطنت السهل الرسوبي في وسط وجنوب العراق منذ قدم الزمان. ان الاساطير السومرية، ملحمة كلكامش مثالا، لا تخبرنا فقط عن ابطال ذوي قوى خارقة، يصارعون وحوشا هجينة، او عن ملوك يتنقلون بين عوالم مرئية وغير مرئية بحثا عن سر الخلود، وانما تلقي تلك الاساطير الضوء على طبيعة الحياة اليومية لرجال ونساء بسطاء عاشوا في أحياء تلك المدن القديمة. يصف الفيلسوف الاغريقي يوهيميروس (٣١٦ قبل الميلاد) الأسطورة بكونها "احداث وشخصيات تاريخية حقيقية، وان الالهة كانت يوما ما رجالا تم تقديسهم وعبادتهم بعد موتهم". علاوة على ذلك، تحاول الأسطورة إيجاد اجوبة لأسئلة ذات طابع وجودي تملكت الانسان منذ بدء الخليقة: من انا؟ ما انا؟ من اين اتيت؟ الي اين سأذهب بعد الموت؟ إضافة الى ذلك ان للأسطورة القدرة علي أضفاء مصداقية (بالسلب قد تكون او بالإيجاب) على السرد الذي يتناول احداثا حقيقية وقعت في زمن غابر.

تجسد اسطورة آدابا وريح الجنوب نموذجا مثاليا للأساطير في العراق القديم التي تحاول العثور على أجوبة للأسئلة السالفة الذكر كما تنطوي على ثيمات متعددة وقصص ورد ذكرها في الاساطير الأخرى. تحكي الاسطورة قصة آدابا، حكيم مدينة أريدو والكاهن في معبد الاله انكي (إيا.. كما يعرف عند الاكديين) إله الماء العذب و الحكمة. تبدأ الاحداث بذهاب آدابا في زورقه الى البحر السفلي (الخليج العربي) صيدا للسمك الذي يقوم بتقديمه كقرابين ونذور في معبد الاله انكي. هناك تهب ريح الجنوب لينقلب به الزورق و يهبط الى القعر ويمضي سبعة أيام داخل الماء. يلعن آدابا ريح الجنوب بان يكسر جناحها. يستجاب لدعاء آدابا وتتوقف ريح الجنوب عن الهبوب لسبعة أيام. ينتبه عندئذ الاله آنو، إله السماء، و يسأل وزيره عن اختفاء ريح الجنوب فيخبره الوزير بما فعله آدابا، خادم الاله انكي. يثور الاله انو غضبا ويأمر باستدعاء آدابا الي السماء للمحاكمة. يعلم الاله انكي بما ينوي الاله انو القيام به ويخبر آدابا بذلك ثم يبدا بتلقينه ما يجب عليه ان يجيب في حضرة إله السماء. من الملفت للانتباه، ان إله مدينة أريدو انكي يقف مع آدابا ويقدم له النصح ضد آلهة سومر، متمثلا في هذه الأسطورة بالإله انو. تتقارب اسطورة الحكيم آدابا في هذا الشأن مع اسطورة الطوفان، حيث يقوم الاله انكي باصطفاء اتراهاسس ( زيوسودرا السومري أو اوتناپشتم) ليبني مركبه الكبير كي ينقذ الخلق بعد ان احاط علما بقرار الهة سومر، على راسهم الاله انليل، بأن يكتسح الطوفان الأرض ليهلك الحرث والنسل. يخبر انكي آدابا الحكيم بان الاله انو سيقدم له الطعام والشراب وكذلك عباءة ليرتديها وزيتا ليمسح به جسده. فأما الطعام والشراب فقد نهاه انكي عن تناولهما لانهما غذاء الموت. اما الرداء والزيت فعليه ان يقبل بهما. وبعد تفاصيل كثيرة اخرى يصعد الحكيم آدابا الي السماء ويبقى سبعة أيام في حضرة الاله انو. يتبع آدابا وصايا الاله انكي بحذافيرها. وبعد مسائلة طويلة يستفسر إله السماء عن سبب امتناع آدابا عن تناول الطعام والشراب. يجيب آدابا بما أملى عليه الاله انكي. عندئذ يضحك الاله انو و يخبر آدابا بان ما أملاه عليه انكي لم يكن الحقيقة، وما الطعام سوى طعام الخلود ومن تناوله كتبت له الحياة الأبدية. وهكذا يحكم إله السماء بهبوط آدابا مجددا الي الأرض ليحيا بانتظار الموت يوما. واما الرداء والزيت فهما رمزان للحكمة والمعرفة. وتصف الأسطورة في بدءها آدابا بانه كاهن "باسوسو" وبمعنى "الراهب الممسوح". في نص سومري قديم من أواخر الالف الثالث قبل الميلاد يحكي قيام حاكم مدينة لكش السومرية الملك كوديا بالمبيت في معبد الاله نينكيرسو، ويصف النص بالتفاصيل طقوس العبادة، ومن ضمنها دهن گوديا جسده بالزيت، ليكمل ليله بان تأتيه الشارة الإلهية في الحلم ليشيد معبدا للآلهة.

كيف أتت لنا اسطورة آدابا؟ هنالك ثلاثة مصادر تم العثور عليها في فترات متباعدة من الزمن وفي مواقع توزعت بين العراق ومصر.نسختان كتبت باللغة الاكدية وثالثة بالسومرية. تم العثور على خمسة الواح طينية في مكتبة اشور بانيبال الشهيرة في نينوي عام ١٨٥٣ يعود تاريخها الى الحقبة الاشورية الجديدة (٩١٠ – ٦٠٩ قبل الميلاد). وتم اكتشاف لوح واحد في تنقيبات تل العمارنة في مصر عام ١٩٣٢. يرجع تاريخ هذا النص الي العهد البابلي الوسيط (او الفترة الكاشية) للفترة ما بين أواخر القرن الرابع عشر الي أوائل القرن الثالث عشر قبل الميلاد. يعتبر العثور على المصدر الثالث علامة فارقة قادت الى محاولة قراءة جديدة للنص السومري ومقارنته بنظيريه السابقين. في عام ١٩٨٢ اكتشف فريق تنقيب عراقي- أجنبي آثار حي سكني صغير في منطقة تل حداد من جبال حمرين. تم العثور على مكتبة صغيرة داخل بيت كانت تعود ملكيته لكاهن احتفظ بنصوص عديدة باللغتين الاكدية والسومرية. من ضمن تلك الالواح الطينية وجدت النسخة الثالثة المكتوبة باللغة السومرية وتعتبر الاقدم الى الان اذ يقدر تاريخ كتابتها الي العهد البابلي القديم (٢٠٠٠ الي١٦٠٠ قبل الميلاد). استدل المنقبون والمختصون ان هناك فروق جوهرية بين النص المستكشف حديثا والنصين المكتوبين باللغة الاكدية. قادت تلك التباينات المختصين الى دراسة نص آدابا مجددا وتحليله وفق المعطيات الجديدة التي اثمرت عنها عمليات التنقيب. الأهم من ذلك هو دراسة تطور النص عبر ما يقارب الالف عام التي دونت خلالها الأسطورة وتأثير المحيط الاجتماعي والمعتقد الديني في كل من تلك الحقب التاريخية.

قبل البد بدراسة النص الادبي لأدابا وريح الجنوب، علينا ان نلقي نظرة على الحيز الزماني/المكاني الذي تتحرك فيه الأسطورة او ما يعرف بالفضاء الأسطوري. ان السطرين الاولين للنص تصف الشخصيات الرئيسية إضافة الي مكان وزمان الحدث:

"له، وهبنا الحكمة، لكن لم نمنحه الخلود

في ذلك الزمان، في تلك السنين، كان حكيما، ابن أريدو"

الوصف أعلاه يسلط الضوء على الفكرة الرئيسية في النص، الا وهي التناقض في ثنائية المعرفة والخلود. كذلك يصف لنا الحيز الجغرافي الذي تدور فيه الاحداث: أريدو، اولى مدن سومر حيث هبطت الملوكية من السماء، مدينة الاله انكي وراهب معبده آدابا. تقع أريدو (تعرف بتل أبو شهرين) على مسافة ١٢ كيلومتر جنوب غرب مدينة اور السومرية في محافظة ذي قار جنوب العراق. تخبرنا ملحمة بدء الخليقة البابلية والتي تعرف ب "اينوما ايليش" بقصة مدينة أريدو، كيف شيد الاله مردوخ بيتا من قصب على وجه الماء

" كانت الارض بحرا،

عندئذ بُنِيَتْ أريدو ، و شُيِّدَ (الاساكليا)(١)،

شيد الاله مردوخ هيكلا من القصب على وجه الماء

بعدها خلق الانسان"

يتبين لنا ان اول بيت كان عبارة عن صريفة في هور جنوبي. يستمر النص ليصف لنا آدابا:

"خلقه إيا (انكي) كروح حافظة بين البشر(٢).

حكيما- لا يعص كلمته أحد -

ذكي، ذو حكمة غزيرة، كان واحدا من (الانوناكي)(٣)،

مقدس، طاهر، قديس مصطفى (٤)، يواظب على تأدية الطقوس"

يضفي النص على آدابا صفات التقديس ويصنفه من ضمن كبار الهة سومر (الانوناكي)، رغم ان ذلك يتناقض مع كون آدابا مخلوق الاله انكي وانتفت عنه صفة الخلود في البدء كما يوضح النص. لذلك يعتبر هذا التعبير مجازيا على الاغلب.

ان الاختلاف الكبير بين النص السومري ونظيريه الاكديين يتركز في تناول تلك النصوص لذكر الطوفان العظيم. ففي النص السومري تبدأ الاحداث بعد انتهاء الطوفان وهبوط الملكية مجددا من السماء الي مدينة كيش ثم بدء الخليقة مرة ثانية. وهنا يجب ان ننتبه الى ان حكمة آدابا في النص السومري جوهرية فطرية من قبل الاله انكي. هذه المعرفة انتقلت الى البشر عبر وسيط الا وهو الحكيم آدابا. في مقابل ذلك، تبدأ الاحداث في النسختين باللغة الاكدية قبل الطوفان العظيم. و بالرغم من عدم ذكر الطوفان ومصير آدابا عند حدوثه، الا ان هناك مقاربة ملفتة للاهتمام. فنزول آدابا الي الماء وبقائه سبعة أيام يرادف رحلة اتراهاسس في سفينته عند حدوث الطوفان. من الجدير بالذكر ان ثيمات الصعود الي السماء والهبوط الى الماء تتكرر مرارا في النصوص السومرية وليست عصية على التصديق والقبول من العوام آنذاك. فالشروق والغروب يحدثان بنزول الاله شاماش، إله الشمس والضياء، الى العالم السفلي ليلا لينهض ويرتقي سلم الشمس عند الصباح.

من ناحية اخري، يعتقد ان نزول آدابا الى الماء كان مخططا له من قبل الاله انكي بهدف حفظ المعرفة والحكمة الإلهية من الزوال والفناء بفعل الطوفان، كما حدث من قبل عندما اصطفي الاله انكي اتراهاسس. من الجدير بالذكر ان الرحلتين استغرقتا سبعة أيام، وبعد اجتياز آدابا الاختبار، كتب له الخلود كما كتب لاتراهاسس من قبل. علاوة على ذلك، تشابه اسطورة آدابا بصيغتها المدونة بالأكدية اسطورة أوانس والحكماء السبعة التي ذكرها الكاهن البابلي بيروسس في القرن الثالث قبل الميلاد. كان بيروسس كاهنا في معبد الاله مردوخ في بابل في القرن الثالث قبل الميلاد و كان يتكلم ويكتب الآرامية واليونانية. تم تكليفه من قبل الملك انتيوكوس بكتابة تاريخ بابل باللغة اليونانية. كتب حينها كتابه الشهير والمفقود حاليا "بابليوناكا" والذي اقتبس منه لاحقا المؤرخون اليونانيون. وصف بيروسس الحكيم اوانس بانه يظهر بجسد سمكة و له رأس انسان تحت رأس السمكة. تقول الأسطورة بان اوانس يخرج من مياه الخليج العربي كل صباح ليعلم الناس الحكمة والمعرفة والصناعة والزراعة ليعود مساءا لمستقره في الماء. يعتقد بان اوانس الذي ذكره بيروسس ليس سوى آدابا الحكيم. في عام ١٩٦٢، عثر على لوح ظيني مهم سمي بقائمة ملوك وحكماء اوروك، حيث تذكر القائمة بان سبعة ملوك قد حكموا الأرض قبل حصول الطوفان ولكل ملك كان هناك حكيم يسدي له النصح بما يملكه من معرفة وحكمة الهية. يذكر النص بان في فترة حكم الملك الأول ايالو كان آدابا هو الحكيم.


اثار التشابه بين اسطورة آدابا الحكيم و نصوص الأديان السماوية جدلا كثيرا في الأوساط الاكاديمية لا يقل عن الاهتمام الذي نشا عندما تمكن جورج سميث عام ١٨٧٢من فك شفرة الكتابة السومرية للوح الحادي عشر من ملحمة كلكامش والذي يذكر فيه قصة الطوفان. هناك تقارب كبير بين قصة آدابا وقصة النبي ادم كما ذكرت في نصوص سفر التكوين من العهد القديم وكذلك في القران. فالتشابه في الاسم بين الاثنين وذكر قصة الطعام المحرّم وكذلك كلاهما يمثلان اول الخلق. لكن ما يلفت النظر هو التقارب الواضح بين آدابا وشخصية الحكيم (النبي) الخضر كما وردت في القران وفي كتب المفسرين المسلمين. تماثل قصة الخضر كما وردت في سورة الكهف (الآيات ٦١-٦٥) شخصية آدابا الحكيم مواضع كثيرة. يصف لنا القران بان الخضر أكثر حكمة من موسى النبي وقد بعثه الله ليسدي النصح والارشاد للنبي ويفيض عليه بما يملك من حكمة ومعرفة ربانية، "فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا" (الكهف، اية ٦٥). إضافة الى ذلك، تذكر السورة قصة هروب السمكة من يدي الخادم حيث يستدل النبي موسى بانها إشارة من الله الى مكان لقائه بالخضر: "فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا(٦٢) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا(٦٣)قَالَ ذَلِكَ مَا

كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (٦٤)". من الملفت للانتباه انتشار مقامات كثيرة للخضر في بلاد المسلمين وتقع اغلبها على ضفاف الأنهار ويمثل الماء عنصرا رئيسيا في احياء الطقوس في تلك المزارات. كما ذكرت سابقا، ان آدابا قد كتب له الخلود من قبل الاله انكي بعد نزوله الى الماء وصعوده الي السماء، وكذلك يعتقد اغلب علماء المسلمين بان الخضر ابقاه الله حيا الي يوم الدين.

نستنتج من كل ذلك، بان اسطورة الحكيم آدابا تتشابه في بعض أجزائها من اساطير سومر الأخرى ونجد ايضا لها اثرا في نصوص متأخرة أهمها كتاب الكاهن البابلي بيروسس، الذي يُعْتَقَدْ بانه حلقة الوصل بين النصوص الأدبية السومرية والاكدية من جانب والادب اليوناني أصل الحضارة الغربية من جانب اخر. إضافة الى ذلك، هناك مقاربات متعددة بين اسطورة آدابا وقصص وشخصيات مختلفة وردت في كتب الديانات السماوية. الأهم هو ان اسطورة ادابا بثيماتها المتعددة تمثل رافدا اخر يضاف الي الإرث الادبي السومري والأكدي الذي يساعدنا في دراسة طبيعة المجتمع وتاريخ العراق القديم وعقائد الشعوب التي استوطنت تلك الارض منذ فجر التاريخ.


(١) الاساكليا هو معبد الاله مردوخ كبير الهة مدينة بابل.

(٢) روح حافظة وردت باالانكليزية: protective spirit. و هو مصطلح يصف مهنة المعالج الروحاني الذي يقوم بعلاج المرض. وقد اشارت نصوص لتعويذات قديمة تذكر اسم ادابا الحكيم كمعالج روحاني.

(٣) الانوناكي: كبار الالهة السومرية و يقابلها الاكيكي و هم صغار الالهة.

(٤) القديس المصطفي: وردت (كاهن باسوسو) و بمعني الكاهن الممسوح و هو رمز للقداسة و منه صفة المسيح.

 
 
 

Comentários


Post: Blog2_Post

Subscribe Form

Thanks for submitting!

©2020 by MesopotoMania. Proudly created with Wix.com

bottom of page